فصل: تفسير الآية رقم (114):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (110):

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)}
قوله تعالى: {وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} الكلمة: أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح، ولولا ذلك لقضى بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر. قيل: المراد بين المختلفين في كتاب موسى، فإنهم كانوا بين مصدق به ومكذب.
وقيل: بين هؤلاء المختلفين فيك يا محمد بتعجيل العقاب، ولكن سبق الحكم بتأخير العقاب هذه الأمة إلى يوم القيامة. {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} إن حملت على قوم موسى، أي لفي شك من كتاب موسى فهم في شك من القرآن.

.تفسير الآية رقم (111):

{وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}
قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ} أي إن كلا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم، فكذلك قومك يا محمد. واختلف القراء في قراءة {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} فقرأ أهل الحرمين- نافع وابن كثير وأبو بكر معهم- {وإن كلا لما} بالتخفيف، على أنها {إن} المخففة من الثقيلة معملة، وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه، قال سيبويه: حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول: إن زيدا لمنطلق، وأنشد قول الشاعر:
كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم

أراد كأنها ظبية فخفف ونصب ما بعدها، والبصريون يجوزون تخفيف {إن} المشددة مع إعمالها، وأنكر ذلك الكسائي وقال: ما أدري على أي شيء قرئ {وإن كلا}! وزعم الفراء أنه نصب {كلا} في قراءة من خفف بقوله: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} أي وإن ليوفينهم كلا، وأنكر ذلك جميع النحويين، وقالوا: هذا من كبير الغلط، لا يجوز عند أحد زيدا لأضربنه. وشدد الباقون {إِنَّ} ونصبوا بها {كُلًّا} على أصلها. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر {لَمَّا} بالتشديد. وخففها الباقون على معنى: وإن كلا ليوفينهم، جعلوا {ما} صلة.
وقيل: دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما ب {ما}.
وقال الزجاج: لام {لَمَّا} لام {إن} و{ما} زائدة مؤكدة، تقول: إن زيدا لمنطلق، فإن تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك: إن الله لغفور رحيم، وقوله: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى}. واللام في {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} هي التي يتلقى بها القسم، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشددة أو المخففة، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما ب {ما} و{ما} زائدة مؤكدة، وقال الفراء: {ما} بمعنى {من} كقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] أي وإن كلا لمن ليوفينهم، واللام في {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} للقسم، وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج، غير أن {ما} عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى {من}.
وقيل: ليست بزائدة، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد، وهي خبر {إِنَّ} و{لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} جواب القسم، التقدير: وإن كلا خلق ليوفينهم ربك أعمالهم.
وقيل: {ما} بمعنى {من} كقوله: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 3] أي من، وهذا كله هو قول الفراء بعينه. وأما من شدد {لما} وقرأ {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} بالتشديد فيهما- وهو حمزة ومن وافقه- فقيل: إنه لحن، حكي عن محمد بن زيد أن هذا لا يجوز، ولا يقال: إن زيدا إلا لأضربنه، ولا لما لضربته.
وقال الكسائي: الله أعلم بهذه القراءة، وما أعرف لها وجها.
وقال هو وأبو علي الفارسي: التشديد فيهما مشكل. قال النحاس وغيره: وللنحويين في ذلك أقوال: الأول- أن أصلها {لمن ما} فقلبت النون ميما، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت {لما} و{ما} على هذا القول بمعنى {من} تقديره: وإن كلا لمن الذين، كقولهم:
وإني لما أصدر الأمر وجهه ** إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

وزيف الزجاج هذا القول، وقال: {من} اسم على حرفين فلا يجوز حذفه.
الثاني- أن الأصل. لمن ما، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات، والتقدير: وإن كلا لمن خلق ليوفينهم.
وقيل: {لما} مصدر {لم} وجاءت بغير تنوين حملا للوصل على الوقف، فهي على هذا كقوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا} [الفجر: 19] أي جامعا للمال المأكول، فالتقدير على هذا: وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لما، أي جامعة لأعمالهم جمعا، فهو كقولك: قياما لأقومن. وقد قرأ الزهري {لما} بالتشديد والتنوين على هذا المعنى.
الثالث-
أن {لَمَّا} بمعنى {إلا} حكى أهل اللغة: سألتك بالله لما فعلت، بمعنى إلا فعلت، ومثله قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ} [الطارق: 4] أي إلا عليها، فمعنى الآية: ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم، قال القشيري: وزيف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} حتى تقدر {إلا} ولا يقال: ذهب الناس لما زيد.
الرابع- قال أبو عثمان المازني: الأصل وإن كلا لما بتخفيف {لما} ثم ثقلت كقوله:
لقد خشيت أن أرى جدبا ** في عامنا ذا بعد ما أخصبا

وقال أبو إسحاق الزجاج: هذا خطأ، إنما يخفف المثقل، ولا يثقل المخفف.
الخامس- قال أبو عبيد القاسم بن سلام: يجوز أن يكون التشديد من قولهم: لممت الشيء ألمه لما إذا جمعته، ثم بني منه فعلى، كما قرئ {ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا} [المؤمنون: 44] بغير تنوين وبتنوين. فالألف على هذا للتأنيث، وتمال على هذا القول لأصحا الإمالة، قال أبو إسحاق: القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة، وتكون بمعنى {ما} مثل: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ} [الطارق: 4] وكذا أيضا تشدد على أصلها، وتكون بمعنى {ما} و{لما} بمعنى {إلا} حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين، وأن {لما} يستعمل بمعنى {إلا} قلت: هذا القول الذي ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره، وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له، إلا أن ذلك القول صوابه {إن} فيه نافية، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا وبقيت قراءتان، قال أبو حاتم: وفي حرف أبي: {وإن كلا إلا ليوفينهم} [هود: 111] وروي عن الأعمش {وإن كل لما} بتخفيف {إن} ورفع {كل} وبتشديد {لَمَّا}. قال النحاس: وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها {إن} بمعنى {ما} لا غير، وتكون على التفسير، لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة. {إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تهديد ووعيد.

.تفسير الآية رقم (112):

{فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}
قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولغيره.
وقيل: له والمراد أمته، قاله السدى.
وقيل: {استقم} اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال، كما تقول: استغفر الله أطلب الغفران منه. والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال، فاستقم على امتثال أمر الله.
وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال: {قل آمنت بالله ثم استقم}.
وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. {وَمَنْ تابَ مَعَكَ} أي استقم أنت وهم، يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال: «شيبتني هود وأخواتها». وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: «شيبتني هود». فقال: «نعم» فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: «لا ولكن قوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ». {وَلا تَطْغَوْا} نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد، ومنه {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ}.
وقيل: أي لا تتجبروا على أحد.

.تفسير الآية رقم (113):

{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا} الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى، الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم، وكله متقارب.
وقال ابن زيد: الركون هنا الإدهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم.
الثانية: قرأ الجمهور: {تَرْكَنُوا} بفتح الكاف، قال أبو عمرو: هي لغة أهل الحجاز. وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما: {تركنوا} بضم الكاف، قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس. وجوز قوم ركن يركن مثل منع يمنع.
الثالثة: قوله تعالى: {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قيل: أهل الشرك.
وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى: {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا} [الأنعام: 68] الآية. وقد تقدم. وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي

فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في آل عمران والمائدة. وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار. والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي تحرقكم. بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم.

.تفسير الآية رقم (114):

{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ} لم يختلف أحد من أهل التأويل في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة، وخصها بالذكر لأنها ثانية الإيمان، واليها يفزع في النوائب، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وقال شيوخ الصوفية: إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادة فرضا ونفلا، قال ابن العربي: وهذا ضعيف، فإن الأمر لم يتناول ذلك إلا واجبا لا نفلا، فإن الأوراد معلومة، وأوقات النوافل المرغب فيها محصورة، وما سواها من الأوقات يسترسل عليها الندب على البدل لا على العموم، وليس ذلك في قوة بشر.
الثانية: قوله تعالى: {طَرَفَيِ النَّهارِ} قال مجاهد: الطرف الأول، صلاة الصبح، والطرف الثاني صلاة الظهر والعصر، واختاره ابن عطية.
وقيل: الطرفان الصبح والمغرب، قال ابن عباس والحسن. وعن الحسن أيضا: الطرف الثاني العصر وحده، وقال قتادة والضحاك.
وقيل: الطرفان الظهر والعصر. والزلف المغرب والعشاء والصبح، كأن هذا القائل راعى جهر القراءة. وحكى الماوردي أن الطرف الأول صلاة الصبح باتفاق. قلت: وهذا الاتفاق ينقصه القول الذي قبله. ورجح الطبري أن الطرفين الصبح والمغرب، وأنه ظاهر، قال ابن عطية: ورد عليه بأن المغرب لا تدخل فيه لأنها من صلاة الليل. قال ابن العربي: والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب، وهما طرفا الليل! فقلب القوس ركوة، وحاد عن البرجاس غلوة، قال الطبري: والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب، ولم يجمع معه على ذلك أحد.
قلت: هذا تحامل من ابن العربي في الرد، وأنه لم يجمع معه على ذلك أحد، وقد ذكرنا عن مجاهد أن الطرف الأول صلاة الصبح، وقد وقع الاتفاق- إلا من شذ بأن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه ذلك يوم فطر، وعليه القضاء والكفارة، وما ذلك إلا وما بعد طلوع الفجر من النهار، فدل على صحة ما قاله الطبري في الصبح، وتبقى عليه المغرب والرد عليه فيه ما تقدم. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} أي في زلف من الليل، والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض، ومنه سميت المزدلفة، لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة. وقرأ ابن القعقاع وابن أبي إسحاق وغيرهما {وزلفا} بضم اللام جمع زليف، لأنه قد نطق بزليف، ويجوز أن يكون واحده {زلفة} لغة، كبسرة وبسر، في لغة من ضم السين. وقرأ ابن محيصن {وزلفا} من الليل بإسكان اللام، والواحدة زلفة تجمع جمع الأجناس التي هي أشخاص كدرة ودر وبرة وبر. وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضا {زلفى} مثل قربى. وقرأ الباقون {وَزُلَفاً} بفتح اللام كغرفة وغرف. قال ابن الأعرابي: الزلف الساعات، واحدها زلفة.
وقال قوم: الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس، فعلى هذا يكون المراد بزلف الليل صلاة العتمة، قاله ابن عباس.
وقال الحسن: المغرب والعشاء.
وقيل: المغرب والعشاء والصبح، وقد تقدم.
وقال الأخفش: يعني صلاة الليل ولم يعين.
الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين إلى أن الحسنات هاهنا هي الصلوات الخمس وقال مجاهد: الحسنات قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال ابن عطية: وهذا على جهة المثال في الحسنات، والذي يظهر أن اللفظ عام في الحسنات خاص في السيئات، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما اجتنبت الكبائر». قلت: سبب النزول يعضد قول الجمهور، نزلت في رجل من الأنصار، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو.
وقيل: اسمه عباد، خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج. روى الترمذي عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله! لو سترت على نفسك، فلم يرد عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا فدعاه، فتلا عليه: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ} إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم: هذا له خاصة؟ قال: «لا بل للناس كافة». قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرج أيضا عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن كفارتها فنزلت: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ فقال: «لك ولمن عمل بها من أمتي». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت: إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له فقال: «أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا»؟ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار. قال: وأطرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أوحى الله إليه {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ}. قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أصحابه: يا رسول الله! ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: «بل للناس عامة». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وقيس بن الربيع ضعفه وكيع وغيره، وقد روى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرض عنه، وأقيمت صلاة العصر فلما فرغ منها نزل جبريل عليه السلام عليه بالآية فدعاه فقال له: «أشهدت معناالصلاة»؟ قال نعم، قال: «اذهب فإنها كفارة لما فعلت». وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تلا عليه هذه الآية قال له: «قم فصل أربع ركعات». والله أعلم. وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث ابن عباس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم، {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ}».
الخامسة: دلت الآية مع هذه الأحاديث على أن القبلة الحرام واللمس الحرام لا يجب فيهما الحد، وقد يستدل به على أن لا حد ولا أدب على الرجل والمرأة وإن وجدا في ثوب واحد، وهو اختيار ابن المنذر، لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة ذكر هذا الحديث مشيرا إلى أنه لا يجب عليهما شي، وسيأتي ما للعلماء في هذا في النور إن شاء الله تعالى.
السادسة: ذكر الله سبحانه في كتابه الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأسمائها فقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ} الآية. وقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] الآية. وقال: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18- 17]. وقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها} [طه: 130]. وقال: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]. وقال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ} [البقرة: 238]. وقال: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] على ما تقدم. وقال: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها} [الإسراء: 110] أي بقراءتك، وهذا كله مجمل أجمله في كتابه، وأحال على نبيه في بيانه، فقال جل ذكره: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فبين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفه جميع الصلوات فرضها وسننها، وما لا تصح الصلاة إلا به من الفرائض وما يستحب فيها من السنن والفضائل، فقال في صحيح البخاري: «صلوا كما رأيتموني أصلي». ونقل ذلك عنه الكافة عن الكافة، على ما هو معلوم، ولم يمت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إليه، فكمل الدين، وأوضح السبيل، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3]. قوله تعالى: {ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ} أي القرآن موعظة وتوبة لمن اتعظ وتذكر، وخص الذاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بالذكرى. والذكرى مصدر جاء بألف التأنيث.